الطفل ريحانة وأمانة:
حينما يشرع الإسلام أحكاماً لرعاية الطفل وحسن تربيته، فإنه يؤسس لذلك بتعليمات وتوجيهات تؤكد البعد الإنساني، والمسؤولية الدينية، في التعامل مع الطفل. وأساساً فحب الأطفال والشفقة عليهم نزعة وجدانية فطرية، لكنها قد تضعف أو تختفي لعوامل سلبية طارئة.
والتوجيهات الإسلامية في هذا المجال تشكل استثارة لتلك النزعة الوجدانية، وتحصيناً لها من التأثيرات المصلحية، ولإزالة ما قد يتراكم على فطرة الإنسان النقية من غبار الشهوات والأهواء.
من هنا نجد في النصوص الإسلامية عدداً كبيراً من الأحاديث التي تعطي لرعاية الأطفال بعدها الإنساني، وتضفي عليها صبغة العمل العبادي المقرّب إلى الله تعالى. وتجعلها من أهم مسؤوليات الإنسان في هذه الحياة.
وفيما يلي عيّنات من تلك النصوص الشريفة.
1ـ عنه (ص): " أولادنا أكبادنا "[8] .
2ـ عنه (ص): " من قبّل ولده كتب الله عز وجل له حسنة، ومن فرّحه فرّحه الله يوم القيامة "[9].
3ـ عنه (ص): " احبوا الصِبيان وارحموهم وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا لهم فإنهم لا يدرون إلا أنكم ترزقونهم "[10] .
4ـ عنه (ص): " الولد للوالد ريحانة من اللَّه " [11] .
5ـ عنه (ص): " نظر الوالد إلى ولده حباً له عبادة "[12] .
6ـ عن الإمام جعفر الصادق (ع) قال:" قال موسى بن عمران: يا رب أيّ الأعمال أفضل عندك؟ فقال: حبُّ الأطفال فإني فطرتهم على توحيدي فإن أمتّهم أدخلتهم جنتي برحمتي ".[13]
7ـ عن الإمام جعفر الصادق (ع):" إن الله ليرحم العبد لشدة حبه لولده "[14].
8 ـ عن كليب الصيداوي قال: قال لي أبو الحسن (ع): " إن الله عز وجل ليس يغضب لشيء كغضبه للنساء والصبيان "[15] .
رضاع الطفل:
من أهم احتياجات الطفل وأوائل حقوقه، توفير الغذاء الذي يقوّم جسمه، ويسيّر حياته، والطريق الوحيد لتغذيته في الفترة الأولى من حياته هو الإرضاع، حيث يمتص اللبن من ثدي أمه أو أي امرأة أخرى، أو عبر الرضاعة الصناعية.
والرضاعة حق طبيعي للطفل أوجبه الشارع، فإذا كان للطفل مالٌ جاءه عن إرث أو أي طريق آخر، وكان رضاعه يتطلب نفقة، فيمكن أن تؤخذ من ماله، وإن لم يكن للطفل مال وجب على أبيه تحمّل نفقات إرضاعه، فإن لم يكن الأب قادراً، أو كان متوفى، انتقلت المسؤولية إلى جده، ومع عدمه أو عدم قدرته، تكون أمه مكلفة بذلك.
وأجمع فقهاء الشيعة على عدم وجوب الإرضاع مبدئياً على الأم، وأنها تستحق الأجرة على إرضاع طفلها من قبل أبيه أو جده (وينبغي أن لا تأخذ أجرة لإرضاع طفلها من زوجها، ويستحب لزوجها أن يعطيها أجرة على ذلك)[16] .
ووافقهم على ذلك الحنابلة والشافعية، وقال الحنفية إن كانت الأم في عصمة الأب أو في عدته، فليس لها طلب الأجرة، أمّا المالكية فذهبوا إلى وجوب الرضاع على الأم بلا أجرة، إن كانت ممن يرضع مثلها، وكانت في عصمة الأب ولو حكماً كالرجعية، أمّا البائن من الأب، والشريفة التي لا يرضع مثلها فلا يجب عليها الرضاع، إلا إذا تعينت الأم لذلك بأن لم يوجد غيرها[17].
ولا شيء أفضل من رضاع الأم لطفلها. فعن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: "قال أمير المؤمنين (ع: ( ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه " [18] .
فمن لطف الله تعالى على الإنسان أن يهيء له الغذاء المناسب منذ اللحظة الأولى لولادته، عبر ثدي أمه، حيث تبلغ كمية اللبن الذي تفرزه الأم نحو كيلو غرام يومياً، يتغير تركيبه تدريجياً مع نمو الطفل بصورة تتوافق مع حاجة جسم الطفل في مراحل نموه المختلفة، فقد وجد مثلاً أن ثديي الأم يفرزان في الأيام الأولى بعد الولادة لبناً كثيفاً يسمى اللبأ (colostrum) وهو غني جداً بعناصر المناعة التي يحتاجها جسم الطفل، في فترة الطفولة الأولى، حيث يكون جسمه ضعيفاً لا يقوى على مواجهة المرض، حتى أن الشافعية نصوا على وجوب إرضاع الأم لطفلها اللبأ وإن وجد غيرها، لأن الطفل لا يستغني عنه غالباً[19].
والرضاع من الأم له بعد آخر غير الأهمية الغذائية، هو ما تفيضه على الطفل من حنان الأمومة وعطفها، لذلك اعتبر الإسلام أن (الأم أحق بإرضاع ولدها من غيرها، فليس للأب تعيين غيرها لإرضاع الولد إلا إذا طالبت بأجرة وكانت غيرها تقبل الإرضاع بأجرة أقل أو بدون أجرة فإن للأب حينئذٍ أن يسترضع له أخرى)[20] يقول تعالى: ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى )[21] .
ولأهمية مسألة رضاعة الطفل فقد تحدثت النصوص الإسلامية حتى عن حدودها الزمنية فالحد الأقصى للرضاعة سنتان كاملتان، يقول تعالى
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ )[22]ويمكن تخفيض هذه المدة حسب مقتضيات صحة الطفل وسلامته، وبعد درسة الوالدين وتقويمهما لوضعه، فلا يستبد أحدهما بقرار إنهاء رضاعه قبل إكمال السنتين يقول تعالى: ( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا )[23] .
لكن روايات وردت عن أئمة أهل البيت (ع) تنهى عن إنقاص الرضاع عن واحد وعشرين شهراً، وتعتبر ذلك نوعاً من التعدي على حق الطفل، كما في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنه قال: " الرضاع واحد وعشرون شهراً فما نقص فهو جور على الصبي" [24].
ومن المناسب أن نشير إلى أهمية الرضاعة الطبيعية، وضرورة اجتناب الرضاعة الصناعية عبر القارورة من الألبان المصنّعة، لأنه يحرم الطفل من حنان أمه الذي يعايشه وهو يرضع من ثديها، كما أن لبن الأم يحتوي على كمية كافية من البروتين والسكر بنسب تناسب الطفل يوماً بيوم، ولا يتوفر مثل ذلك في الألبان المحضّرة من لبن الأبقار أوالأغنام أو الجواميس، إضافة إلى ما قد يحصل من انتقال الجراثيم والميكروبات وعدوى الأمراض نتيجة للخلل في تعقيم الرضّاعة (القارورة) والماء، والأضرار المحتملة من المادة المطاطية التي تصنع منها الحلمات الصناعية، وقد حذرت دراسات نشرت مؤخراً من احتمال إصابة الطفل بالسرطان من جراء ارتضاعه بالحلمات المطاطية.
حضانة الطفل:
الحضانة بفتح الحاء، ويصح بالكسر وأصلها من حضن الطير بيضه، أي ضمه تحت جناحه، والغاية منها المحافظة على الطفل، وتربيته ورعاية مصلحته. ومن حق الولد أن يعيش في كنف والديه وتحت رعايتهما، لذلك كانت الحضانة وظيفة مشتركة بين الوالدين في السنتين الأوليتين من حياته. فلا يجوز للأب أن يفصله عن أمه خلال هذه المدة، وإن افترق عنها بفسخ أو طلاق، إلا إذا تزوجت شخصاً آخر فإنه يسقط حقها في حضانة الطفل وينحصر في الأب.
وبعد إكمال السنتين هناك نصوص وروايات مختلفة حول أحقية الحضانة مع عدم زواج الأم طبعاً. والمشهور عند فقهاء الشيعة أن الأب أولى بولده الذكر بعد السنتين، والأم أولى بالبنت إلى سبع سنين ثم تعود رعايتها إلى الأب.
ويميل بعض الفقهاء إلى أن الحضانة للأب بعد السنتين سواء كان الولد ذكراً أو أنثى لكن الأفضل أن لا يفصله عن أمه حتى يبلغ سبع سنين[25] .
وذهب الحنفية إلى أن حضانة الأم للصبي تمتد حتى يستغني عن رعاية النساء له، وقدروه بسبع سنين، أما حضانة البنت فتظل حتى تبلغ. وقد ذهب المالكية إلى أن حضانة الأم للصبي تستمر حتى البلوغ وللبنت حتى زواجها.
وعند الحنابلة يظل الطفل الذكر عند حاضنته حتى يبلغ سبع سنين، فإن اتفق أبواه بعد ذلك أن يكون عند أحدهما جاز، وإلا خيّر هو فكان مع من اختار منهما، أما الأنثى فإذا بلغت سبعاً فحضانتها لأبيها. وعند الشافعية تستمر حتى سنّ التمييز سبع أو ثماني سنين ذكراً كان أو أنثى، ثمّ يخيّر بين أبويه[26] .
وتظهر هذه التشريعات اهتمام الإسلام بتفاصيل شؤون رعاية الطفل نسأل الله تعالى أن يعيننا على القيام بتربية أبنائنا وأن يقر أعيننا بصلاحهم في الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب.